فصل: تفسير الآيات رقم (1- 32)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***


سورة الروم

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 32‏]‏

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏ غُلِبَتِ الرُّومُ ‏(‏2‏)‏ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ‏(‏3‏)‏ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏4‏)‏ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏5‏)‏ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏6‏)‏ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ‏(‏7‏)‏ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ‏(‏8‏)‏ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏9‏)‏ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏10‏)‏ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏11‏)‏ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏12‏)‏ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ ‏(‏13‏)‏ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ‏(‏14‏)‏ فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ ‏(‏15‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ‏(‏16‏)‏ فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ‏(‏17‏)‏ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ ‏(‏18‏)‏ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ‏(‏19‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ‏(‏20‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏21‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ‏(‏22‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ‏(‏23‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏24‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ ‏(‏25‏)‏ وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ‏(‏26‏)‏ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏27‏)‏ ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏28‏)‏ بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏29‏)‏ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏30‏)‏ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏31‏)‏ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

نزلت الآيات الأولى من هذه السورة بمناسبة معينة‏.‏ ذلك حين غلبت فارس على الروح فيما كانت تضع يدها من جزيرة العرب‏.‏ وكان ذلك في إبان احتدام الجدل حول العقيدة بين المسلمين السابقين إلى الإسلام في مكة قبل الهجرة والمشركين‏.‏‏.‏ ولما كان الروم في ذلك الوقت أهل كتاب دينهم النصرانية، وكان الفرس غير موحدين ديانتهم المجوسية، فقد وجد المشركون من أهل مكة في الحادث فرصة لاستعلاء عقيدة الشرك على عقيدة التوحيد، وفألاً بانتصار ملة الكفر على ملة الإيمان‏.‏

ومن ثم نزلت الآيات الأولى من هذه السورة تبشر بغلبة أهل الكتاب من الروم في بضع سنين غلبة يفرح لها المؤمنون، الذين يودون انتصار ملة الإيمان من كل دين‏.‏

ولكن القرآن لم يقف بالمسلمين وخصومهم عند هذا الوعد، ولا في حدود ذلك الحادث‏.‏ إنما كانت هذه مناسبة لينطلق بهم إلى آفاق أبعد وآماد أوسع من ذلك الحادث الموقوت‏.‏ وليصلهم بالكون كله، وليربط بين سنة الله في نصر العقيدة السماوية والحق الكبير الذي قامت عليه السماوات والأرض وما بينهما‏.‏ وليصل بين ماضي البشرية وحاضرها ومستقبلها‏.‏ ثم يستطرد بها إلى الحياة الأخرى بعد هذه الحياة الدنيا، وإلى العالم الآخر بعد عالم الأرض المحدود‏.‏ ثم يطوف بهم في مشاهد الكون، وفي أغوار النفس، وفي أحوال البشر، وفي عجائب الفطر‏.‏‏.‏ فإذا هم في ذلك المحيط الهائل الضخم الرحيب يطلعون على آفاق من المعرفة ترفع حياتهم وتطلقها، وتوسع آمادها وأهدافها، وتخرجهم من تلك العزلة الضيقة‏.‏ عزلة المكان والزمان والحادث‏.‏ إلى فسحة الكون كله‏:‏ ماضيه وحاضره ومستقبله، وإلى نواميس الكون وسننه وروابطه‏.‏

ومن ثم يرتفع تصورهم لحقيقة الارتباطات وحقيقة العلاقات في هذا الكون الكبير‏.‏ ويشعرون بضخامة النواميس التي تحكم هذا الكون، وتحكم فطرة البشر؛ ودقة السنن التي تصرف حياة الناس وأحداث الحياة، وتحدد مواضع النصر ومواضع الهزيمة؛ وعدالة الموازين التي تقدر بها أعمال الخلق، ويقوّم بها نشاطهم في هذه الأرض، ويلقون على أساسها الجزاء في الدنيا والآخرة‏.‏

وفي ظل ذلك التصور المرتفع الواسع الشامل تتكشف عالمية هذه الدعوة وارتباطها بأوضاع العالم كله من حولها حتى وهي ناشئة في مكة محصورة بين شعابها وجبالها ويتسع مجالها فلا تعود مرتبطة بهذه الأرض وحدها إنما هي مرتبطة كذلك بفطرة هذا الكون ونواميسه الكبرى، وفطرة النفس البشرية وأطوارها، وماضي هذه البشرية ومستقبلها‏.‏ لا على هذه الأرض وحدها، ولكن كذلك في العالم الآخر الوثيق الصلة بها والارتباط‏.‏

وكذلك يرتبط قلب المسلم بتلك الآفاق والآماد؛ ويتكيف على ضوئها شعوره وتصوره للحياة والقيم؛ ويتطلع إلى السماء والآخرة؛ ويتلفت حواليه على العجائب والأسرار، وخلفه وقدامه على الحوادث والمصائر‏.‏

ويدرك موقفه هو وموقف أمته في ذلك الخضم الهائل؛ ويعرف قيمته هو وقيمة عقيدته في حساب الناس وحساب الله، فيؤدي حينئذ دوره على بصيرة، وينهض بتكاليفه في ثقة وطمأنينة واهتمام‏.‏

ويمضي سياق السورة في عرض تلك الارتباطات، وتحقيق دلالاتها في نظام الكون، وتثبيت مدلولاتها في القلوب‏.‏‏.‏ يمضي سياق السورة في شوطين مترابطين‏:‏

في الشوط الأول يربط في نصر المؤمنين والحق الذي تقوم عليه السماوات والأرض وما بينهما، ويرتبط به أمر الدنيا والآخرة‏.‏ ويوجه قلوبهم إلى سنة الله فيمن مضى قبلهم من القرون‏.‏ ويقيس عليها قضية البعث والإعادة‏.‏ ومن ثم يعرض عليهم مشهداً من مشاهد القيامة وما يجري فيه للمؤمنين والكافرين‏.‏ ثم يعود من هذه الجولة إلى مشاهد الكون، وآيات الله المبثوثة في ثناياه؛ ودلالة تلك المشاهد وإيحائها للقلوب‏.‏ ويضرب لهم من أنفسهم ومما ملكت أيمانهم مثلاً يكشف سخافة فكرة الشرك، وقيامها على الأهواء التي لا تستند إلى حق أو علم‏.‏ وينهي هذا الشوط بتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اتباع طريق الحق الواحد الثابت الواضح‏.‏ طريق الفطرة التي فطر الناس عليها؛ والتي لا تتبدل ولا تدور مع الهوى؛ ولا يتفرق متبعوها فرقاً وشيعاً، كما تفرق الذين اتبعوا الهوى‏.‏

وفي الشوط الثاني يكشف عما في طبيعة الناس من تقلب لا يصلح أن تقام عليه الحياة‏.‏ ما لم يرتبطوا بمعيار ثابت لا يدور مع الأهواء، ويصور حالهم في الرحمة والضر، وعند بسط الرزق وقبضه‏.‏ ويستطرد بهذه المناسبة إلى وسائل إنفاق هذا الرزق وتنميته‏.‏ ويعود إلى قضية الشرك والشركاء فيعرضها من هذه الزاوية؛ فإذا هم لا يرزقون ولا يميتون ولا يحيون‏.‏ ويربط بين ظهور الفساد في البر والبحر وعمل الناس وكسبهم؛ ويوجههم إلى السير في الأرض، والنظر في عواقب المشركين من قبل‏.‏ ومن ثم يوجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الاستقامة على دين الفطرة، من قبل أن يأتي اليوم الذي يجزى فيه كل بما كسبت يداه‏.‏ ويعود بهم بعد ذلك إلى آيات الله في مشاهد الكون كما عاد بهم في الشوط الأول‏.‏ ويعقب عليها بأن الهدى هدى الله؛ وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك إلا البلاغ، فهو لا يهدي العمي ولا يسمع الصم‏.‏ ثم يطوف بهم في جولة جديدة في ذات أنفسهم ويذكرهم بأطوار نشأتهم من بدئها إلى منتهاها، منذ الطفولة الواهنة الضعيفة إلى الموت والبعث والقيامة، ويعرض عليهم مشهداً من مشاهدها‏.‏ ثم ينهي هذا الشوط ويختم معه السورة بتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الصبر على دعوته، وما يلقاه من الناس فيها؛ والاطمئنان إلى أن وعد الله حق لا بد آت؛ فلا يقلقه ولا يستخفه الذين لا يوقنون‏.‏

وجو السورة وسياقها معاً يتعاونان في تصوير موضوعها الرئيسي‏.‏ وهو الكشف عن الارتباطات الوثيقة بين أحوال الناس، وأحداث الحياة وماضي البشرية وحاضرها ومستقبلها، وسنن الكون ونواميس الوجود‏.‏ وفي ظلال هذه الارتباطات يبدو أن كل حركة وكل نأمة، وكل حادث وكل حالة، وكل نشأة وكل عاقبة، وكل نصر وكل هزيمة‏.‏‏.‏ كلها مرتبطة برباط وثيق، محكومة بقانون دقيق‏.‏ وأن مرد الأمر فيها كله لله‏:‏ ‏{‏لله الأمر من قبل ومن بعد‏}‏ وهذه هي الحقيقة الأولى التي يؤكدها القرآن كله، بوصفها الحقيقة الموجهة في هذه العقيدة‏.‏ الحقيقة التي تنشأ عنها جميع التصورات والمشاعر والقيم والتقديرات؛ والتي بدونها لا يستقيم تصور ولا تقدير‏.‏‏.‏

والآن نأخذ في عرض السورة بالتفصيل‏:‏

‏{‏ألم‏.‏ غلبت الروم في أدنى الأرض، وهم من بعد غلبهم سيغلبون‏.‏ في بضع سنين‏.‏ لله الأمر من قبل ومن بعد‏.‏ ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، ينصر من يشاء، وهو العزيز الرحيم‏.‏ وعد الله، لا يخلف الله وعده‏.‏ ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏.‏ يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون‏}‏‏.‏‏.‏

«بدأت السورة بالأحرف المقطعة‏:‏» ألف‏.‏ لام‏.‏ ميم «التي اخترنا في تفسيرها أنها للتنبيه إلى أن هذا القرآن ومنه هذه السورة مصوغ من مثل هذه الأحرف، التي يعرفها العرب؛ وهو مع هذا معجز لهم، لا يملكون صياغة مثله، والأحرف بين أيديهم، ومنها لغتهم‏.‏

ثم جاءت النبوءة الصادقة الخاصة بغلبة الروم في بضع سنين‏.‏ وقد روى ابن جرير بإسناده عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال‏:‏ كانت فارس ظاهرة على الروم‏.‏ وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم؛ وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس، لأنهم أهل كتاب، وهم أقرب إلى دينهم‏.‏ فلما نزلت‏:‏ ‏{‏ألم‏.‏ غلبت الروم في أدنى الأرض، وهم من بعد غلبهم سيغلبون، في بضع سنين‏}‏‏.‏ قالوا‏:‏ يا أبا بكر‏.‏ إن صاحبك يقول‏:‏ إن الروم تظهر على فارس في بضع سنين‏.‏ قال‏:‏ صدق‏.‏ قالوا‏:‏ هل لك أن نقامرك‏؟‏ فبايعوه على أربع قلائص إلى سبع سنين‏.‏ فمضت السبع ولم يكن شيء‏.‏ ففرح المشركون بذلك، فشق على المسلمين؛» فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ «ما بضع سنين عندكم‏؟‏» قالوا‏:‏ دون العشر‏.‏ قال‏:‏ اذهب فزايدهم وازدد سنتين في الأجل «قال‏:‏ فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على فارس‏.‏ ففرح المؤمنون بذلك‏.‏

وقد وردت في هذا الحادث روايات كثيرة اخترنا منها رواية الإمام ابن جرير‏.‏ وقبل أن نتجاوز الحادث إلى ما وراءه في السورة من التوجيهات نحب أن نقف أمام بعض إيحاءاته القوية‏.‏

وأول هذه الإيحاءات ذلك الترابط بين الشرك والكفر في كل مكان وزمان أمام دعوة التوحيد والإيمان‏.‏

ومع أن الدول قديماً لم تكن شديدة الاتصال، والأمم لم تكن وثيقة الارتباط كما هو الشأن في عصرنا الحاضر‏.‏ مع هذا فإن المشركين في مكة كانوا يحسون أن انتصار المشركين في أي مكان على أهل الكتاب هو انتصار لهم؛ وكان المسلمون كذلك يحسون أن هناك ما يربطهم بأهل الكتاب، وكان يسوءهم أن ينتصر المشركون في أي مكان؛ وكانوا يدركون أن دعوتهم وأن قضيتهم ليست في عزلة عما يجري في أنحاء العالم من حولهم، ويؤثر في قضية الكفر والإيمان‏.‏

وهذه الحقيقة البارزة هي التي يغفل عنها الكثيرون من أهل زماننا؛ ولا ينتبهون إليها كما انتبه المسلمون والمشركون في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ منذ حوالي أربعة عشر قرناً‏.‏ ومن ثم ينحصرون داخل حدود جغرافية أو جنسية؛ ولا يدركون أن القضية في حقيقتها هي قضية الكفر والإيمان؛ وأن المعركة في صميمها هي المعركة بين حزب الله وحزب الشيطان‏.‏

وما أحوج المسلمين اليوم في جميع بقاع الأرض أن يدركوا طبيعة المعركة، وحقيقة القضية؛ فلا تلهيهم عنها تلك الأعلام الزائفة التي تتستر بها أحزاب الشرك والكفر، فإنهم لا يحاربون المسلمين إلا على العقيدة، مهما تنوعت العلل والأسباب‏.‏

والإيحاء الآخر هو تلك الثقة المطلقة في وعد الله، كما تبدو في قولة أبي بكر رضي الله عنه في غير تلعثم ولا تردد‏.‏ والمشركون يعجبونه من قول صاحبه؛ فما يزيد على أن يقول‏:‏ صدق‏.‏ ويراهنونه فيراهن وهو واثق‏.‏ ثم يتحقق وعد الله، في الأجل الذي حدده‏:‏ ‏{‏في بضع سنين‏}‏‏.‏‏.‏ وهذه الثقة المطلقة على هذا النحو الرائع هي التي ملأت قلوب المسلمين قوة ويقيناً وثباتاً في وجه العقبات والآلام والمحن، حتى تمت كلمة الله وحق وعد الله‏.‏ وهي عدة كل ذي عقيدة في الجهاد الشاق الطويل‏.‏

والإيحاء الثالث هو في تلك الجملة المعترضة في مساق الخبر، من قول الله سبحانه‏:‏ ‏{‏لله الأمر من قبل ومن بعد‏}‏‏.‏‏.‏ والمسارعة برد الأمر كله لله‏.‏ في هذا الحادث وفي سواه‏.‏ وتقرير هذه الحقيقة الكلية، لتكون ميزان الموقف وميزان كل موقف‏.‏ فالنصر والهزيمة، وظهور الدول ودثورها، وضعفها وقوتها‏.‏ شأنه شأن سائر ما يقع في هذا الكون من أحداث ومن أحوال، مرده كله إلى الله، يصرفه كيف شاء، وفق حكمته ووفق مراده‏.‏ وما الأحداث إلا آثار لهذه الإرادة المطلقة، التي ليس عليها من سلطان؛ ولا يدري أحد ما وراءها من الحكمة؛ ولا يعرف مصادرها ومواردها إلا الله‏.‏ وإذن فالتسليم والاستسلام هو أقصى بما يملكه البشر أمام الأحوال والأحداث التي يجريها الله وفق قدر مرسوم‏.‏

‏{‏ألم‏.‏ غلبت الروم في أدنى الأرض‏.‏ وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏لله الأمر من قبل ومن بعد‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله‏}‏‏.‏

‏{‏ينصر من يشاء، وهو العزيز الرحيم‏}‏‏.‏‏.‏

فالأمر له من قبل ومن بعد‏.‏ وهو ينصر من يشاء‏.‏ لا مقيد لمشيئته سبحانه‏.‏ والمشيئة التي تريد النتيجة هي ذاتها التي تيسر الأسباب‏.‏ فلا تعارض بين تعليق النصر بالمشيئة ووجود الأسباب‏.‏ والنواميس التي تصرف هذا الوجود كله صادرة عن المشيئة الطليقة‏.‏ وقد أرادت هذه المشيئة أن تكون هناك سنن لا تتخلف؛ وأن تكون هناك نظم لها استقرار وثبات‏.‏ والنصر والهزيمة أحوال تنشأ عن مؤثرات، وفق تلك السنن التي اقتضتها تلك المشيئة الطليقة‏.‏

والعقيدة الإسلامية واضحة ومنطقية في هذا المجال‏.‏ فهي ترد الأمر كله إلى الله‏.‏ ولكنها لا تعفي البشر من الأخذ بالأسباب الطبيعية التي من شأنها أن تظهر النتائج إلى عالم الشهادة والواقع‏.‏ أما أن تتحقق تلك النتائج فعلاً أو لا تتحقق فليس داخلاً في التكليف، لأن مرد ذلك في النهاية إلى تدبير الله‏.‏ «ولقد ترك الأعرابي ناقته طليقة على باب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل يصلي قائلاً‏:‏» توكلت على الله «فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ اعقلها وتوكل» فالتوكل في العقيدة الإسلامية مقيد بالأخذ بالأسباب، ورد الأمر بعد ذلك إلى الله‏.‏

‏{‏ينصر من يشاء، وهو العزيز الرحيم‏}‏‏.‏‏.‏

فهذا النصر محفوف بظلال القدرة القادرة التي تنشئه وتظهره في عالم الواقع؛ وبظلال الرحمة التي تحقق به مصالح الناس؛ وتجعل منه رحمة للمنصورين والمغلوبين سواء‏.‏ ‏{‏ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض‏}‏ وصلاح الأرض رحمة للمنتصرين والمهزومين في نهاية المطاف‏.‏

‏{‏وعد الله‏.‏ لا يخلف الله وعده‏.‏ ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏.‏ يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون‏}‏‏.‏‏.‏

ذلك النصر وعد من الله، فلا بد من تحققه في واقع الحياة‏:‏ ‏{‏لا يخلف الله وعده‏}‏ فوعده صادر عن إرادته الطليقة، وعن حكمته العميقة‏.‏ وهو قادر على تحقيقه، لا راد لمشيئته، ولا معقب لحكمه، ولا يكون في الكون إلا ما يشاء‏.‏

وتحقيق هذا الوعد طرف من الناموس الأكبر الذي لا يتغير ‏{‏ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏}‏ ولو بدا في الظاهر أنهم علماء، وأنهم يعرفون الكثير‏.‏ ذلك أن علمهم سطحي، يتعلق بظواهر الحياة، ولا يتعمق سننها الثابتة، وقوانينها الأصيلة؛ ولا يدرك نواميسها الكبرى، وارتباطاتها الوثيقة‏:‏ ‏{‏يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ ثم لا يتجاوزون هذا الظاهر؛ ولا يرون ببصيرتهم ما وراءه‏.‏

وظاهر الحياة الدنيا محدود صغير، مهما بدا للناس واسعاً شاملاً، يستغرق جهودهم بعضه، ولا يستقصونه في حياتهم المحدودة‏.‏ والحياة كلها طرف صغير من هذا الوجود الهائل، تحكمه نواميس وسنن مستكنة في كيان هذا الوجود وتركيبه‏.‏

والذي لا يتصل قلبه بضمير ذلك الوجود؛ ولا يتصل حسه بالنواميس والسنن التي تصرفه، يظل ينظر وكأنه لا يرى؛ ويبصر الشكل الظاهر والحركة الدائرة، ولكنه لا يدرك حكمته، ولا يعيش بها ومعها‏.‏

وأكثر الناس كذلك، لأن الإيمان الحق هو وحده الذي يصل ظاهر الحياة بأسرار الوجود؛ وهو الذي يمنح العلم روحه المدرك لأسرار الوجود‏.‏ والمؤمنون هذا الإيمان قلة في مجموع الناس‏.‏ ومن ثم تظل الأكثرية محجوبة عن المعرفة الحقيقية‏.‏

‏{‏وهم عن الآخرة هم غافلون‏}‏‏.‏‏.‏ فالآخرة حلقة في سلسلة النشأة، وصفحة من صفحات الوجود الكثيرة‏.‏ والذين لا يدركون حكمة النشأة، ولا يدركون ناموس الوجود يغفلون عن الآخرة، ولا يقدرونها قدرها، ولا يحسبون حسابها، ولا يعرفون أنها نقطة في خط سير الوجود، لا تتخلف مطلقاً ولا تحيد‏.‏

والغفلة عن الآخرة تجعل كل مقاييس الغافلين تختل؛ وتؤرجح في أكفهم ميزان القيم؛ فلا يملكون تصور الحياة وأحداثها وقيمها تصوراً صحيحاً؛ ويظل علمهم بها ظاهراً سطحياً ناقصاً، لأن حساب الآخرة في ضمير الإنسان يغير نظرته لكل ما يقع في هذه الأرض‏.‏ فحياته على الأرض إن هي إلا مرحلة قصيرة من رحلته الطويلة في الكون‏.‏ ونصيبه في هذه الأرض إن هو إلا قدر زهيد من نصيبه الضخم في الوجود‏.‏ والأحداث والأحوال التي تتم في هذه الأرض إن هي إلا فصل صغير من الرواية الكبيرة‏.‏ ولا ينبغي أن يبني الإنسان حكمه على مرحلة قصيرة من الرحلة الطويلة، وقدر زهيد من النصيب الضخم، وفصل صغير من الرواية الكبيرة‏!‏

ومن ثم لا يلتقي إنسان يؤمن بالآخرة ويحسب حسابها، مع آخر يعيش لهذه الدنيا وحدها ولا ينتظر ما وراءها‏.‏ لا يلتقي هذا وذاك في تقدير أمر واحد من أمور هذه الحياة، ولا قيمة واحدة من قيمها الكثيرة؛ ولا يتفقان في حكم واحد على حادث أو حالة أو شأن من الشؤون‏.‏ فلكل منهما ميزان، ولكل منهما زاوية للنظر، ولكل منهما ضوء يرى عليه الأشياء والأحداث والقيم والأحوال‏.‏‏.‏ هذا يرى ظاهراً من الحياة الدنيا؛ وذلك يدرك ما وراء الظاهر من روابط وسنن، ونواميس شاملة للظاهر والباطن، والغيب والشهادة، والدنيا والآخرة، والموت والحياة، والماضي والحاضر والمستقبل، وعالم الناس والعالم الأكبر الذي يشمل الأحياء وغير الأحياء‏.‏‏.‏ وهذا هو الأفق البعيد الواسع الشامل الذي ينقل الإسلام البشرية إليه؛ ويرفعها فيه إلى المكان الكريم اللائق بالإنسان‏.‏ الخليفة في الأرض‏.‏ المستخلف بحكم ما في كيانه من روح الله‏.‏

ولارتباط تحقق وعد الله بالنصر بالحق الأكبر الذي يقوم عليه هذا الوجود، وارتباط أمر الآخرة كذلك بهذا الحق استطرد يجول بهم جولة أخرى في ضمير هذا الكون‏.‏ في السماوات والأرض وما بينهما؛ ويردهم إلى أنفسهم ينظرون في أعماقها ويتدبرون، علهم يدركون ذلك الحق الكبير، الذي يغفلون عنه حين يغفلون عن الآخرة؛ ويغفلون عن الدعوة التي تقودهم إلى رؤية ذلك الحق وتدبره‏:‏

‏{‏أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى‏.‏

وإن كثيراً من الناس بلقاء ربهم لكافرون‏}‏‏.‏

فطبيعة تكوينهم هم أنفسهم، وطبيعة هذا الكون كله من حولهم توحي بأن هذا الوجود قائم على الحق، ثابت على الناموس، لا يضطرب، ولا تتفرق به السبل، ولا تتخلف دورته، ولا يصطدم بعضه ببعض، ولا يسير وفق المصادفة العمياء، ولا وفق الهوى المتقلب، إنما يمضي في نظامه الدقيق المحكم المقدر تقديراً‏.‏ وأن من مقتضيات هذا الحق الذي يقوم عليه الوجود أن تكون هناك آخرة، يتم فيها الجزاء على العمل، ويلقى الخير والشر عاقبتهما كاملة‏.‏ إنما كل شيء إلى أجله المرسوم‏.‏ وفق الحكمة المدبرة؛ وكل أمر يجيء في موعده لا يستقدم لحظة ولا يستأخر‏.‏ وإذا لم يعلم البشر متى تكون الساعة، فإن هذا ليس معناه أنها لا تكون‏!‏ ولكن تأجيلها يغري الذين لا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا ويخدعهم‏:‏ ‏{‏وإن كثيراً من الناس بلقاء ربهم لكافرون‏}‏‏.‏‏.‏

ومن هذه الجولة في ضمير السماوات والأرض وما بينهما‏.‏ وهي جولة بعيدة الآماد والآفاق في هيكل الكون الهائل، وفي محتوياته المنوعة، الشاملة للأحياء والأشياء، والأفلاك والأجرام، والنجوم والكواكب، والجليل والصغير، والخافي والظاهر، والمعلوم والمجهول‏.‏‏.‏‏.‏ من هذه الجولة البعيدة في ضمير الكون ينقلهم إلى جولة أخرى في ضمير الزمان، وأبعاد التاريخ، يرون فيها طرفاً من سنة الله الجارية، التي لا تتخلف مرة ولا تحيد‏:‏

‏{‏أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم، كانوا أشد منهم قوة؛ وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها؛ وجاءتهم رسلهم بالبينات، فما كان الله ليظلمهم، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون‏.‏ ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى، أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون‏}‏‏.‏‏.‏

وهي دعوة إلى التأمل في مصائر الغابرين؛ وهم ناس من الناس، وخلق من خلق الله، تكشف مصائرهم الماضية عن مصائر خلفائهم الآتية‏.‏ فسنة الله هي سنة الله في الجميع‏.‏ وسنة الله حق ثابت يقوم عليه هذا الوجود، بلا محاباة لجيل من الناس، ولا هوى يتقلب فتتقلب معه العواقب‏.‏ حاشا لله رب العالمين‏!‏

وهي دعوة إلى إدراك حقيقة هذه الحياة وروابطها على مدار الزمان، وحقيقة هذه الإنسانية الموحدة المنشأ والمصير على مدار القرون‏.‏ كي لا ينعزل جيل من الناس بنفسه وحياته، وقيمه وتصوراته، ويغفل عن الصلة الوثيقة بين أجيال البشر جميعاً، وعن وحدة السنة التي تحكم هذه الأجيال جميعاً؛ ووحدة القيم الثابتة في حياة الأجيال جميعاً‏.‏

فهؤلاء أقوام عاشوا قبل جيل المشركين في مكة ‏{‏كانوا أشد منهم قوة‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏وأثاروا الأرض‏}‏‏.‏‏.‏ فحرثوها وشقوا عن باطنها، وكشفوا عن ذخائرها ‏{‏وعمروها أكثر مما عمروها‏}‏‏.‏‏.‏ فقد كانوا أكثر حضارة من العرب، وأقدر منهم على عمارة الأرض‏.‏‏.‏ ثم وقفوا عند ظاهر الحياة الدنيا لا يتجاوزونه إلى ما وراءه‏:‏ ‏{‏وجاءتهم رسلهم بالبينات‏}‏‏.‏

‏.‏ فلم تتفتح بصائرهم لهذه السيئات؛ ولم يؤمنوا فتتصل ضمائرهم بالنور الذي يكشف الطريق‏.‏ فمضت فيهم سنة الله في المكذبين؛ ولم تنفعهم قوتهم؛ ولم يغن عنهم علمهم ولا حضارتهم؛ ولقوا جزاءهم العادل الذي يستحقونه‏:‏ ‏{‏فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى‏}‏‏.‏‏.‏ كانت السوأى هي العاقبة التي لقيها المسيئون وكانت جزاء وفاقاً على ‏{‏أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون‏}‏‏.‏‏.‏

والقرآن الكريم يدعو المكذبين المستهزئين بآيات الله أن يسيروا في الأرض فلا ينعزلوا في مكانهم كالقوقعة؛ وأن يتدبروا عاقبة أولئك المكذبين المستهزئين ويتوقعوا مثلها؛ وأن يدركوا أن سنة الله واحدة وأنها لا تحابي أحداً؛ وأن يوسعوا آفاق تفكيرهم فيدركوا وحدة البشرية، ووحدة الدعوة، ووحدة العاقبة في أجيال البشرية جميعاً‏.‏ وهذا هو التصور الذي يحرص الإسلام على أن يطبع به قلب المؤمن وعقله، ويكرر القرآن الإيقاع حوله كثيراً‏.‏

ومن هاتين الجولتين في أغوار الكون وأغوار التاريخ يردهم إلى الحقيقة التي يغفل عنها الغافلون‏.‏ حقيقة البعث والمآب‏.‏ وهي طرف من الحق الأكبر الذي يقوم عليه الوجود‏:‏

‏{‏الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون‏}‏‏.‏‏.‏

وهي حقيقة بسيطة واضحة‏.‏ والترابط والتناسق بين جزئيها أو بين حلقتيها واضح كذلك‏.‏ فالإعادة كالبدء لا غرابة فيها‏.‏ وهما حلقتان في سلسلة النشأة، مترابطتان لا انفصام بينهما‏.‏ والرجعة في النهاية إلى رب العالمين، الذي أنشأ النشأة الأولى والنشأة الآخرة، لتربية عباده ورعايتهم ومجازاتهم في النهاية على ما يعملون‏.‏

وعندما يصل السياق إلى البعث والمآب يعرض مشهداً من مشاهد القيامة، ويرسم مصائر المؤمنين والمكذبين حين يرجعون؛ ويكشف عن عبث اتخاذ الشركاء وسخف عقيدة المشركين‏:‏

‏{‏ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون، ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين‏.‏ ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون‏.‏ فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون‏.‏ وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون‏}‏‏.‏‏.‏

فها هي ذي الساعة التي يغفل عنها الغافلون، ويكذب بها المكذبون‏.‏ ها هي ذي تجيء، أو ها هي ذي تقوم‏!‏ وهؤلاء هم المجرمون حائرين يائسين، لا أمل لهم في نجاة، ولا رجاء لهم في خلاص‏.‏ ولا شفاعة لهم من شركائهم الذين اتخذوهم في الحياة الدنيا ضالين مخدوعين‏!‏ هؤلاء هم حائرين يائسين لا منقذ لهم ولا شفيع‏.‏ ثم ها هم أولاء يكفرون بشركائهم الذين عبدوهم في الأرض وأشركوهم مع الله رب العالمين‏.‏

ثم ها هو ذا مفرق الطريق بين المؤمنين والكافرين‏:‏

‏{‏فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون‏}‏‏.‏‏.‏ ويتلقون فيها ما يفرح القلب ويسر الخاطر ويسعد الضمير‏.‏

‏{‏وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون‏}‏‏.‏‏.‏

وتلك نهاية المطاف‏.‏ وعاقبة المحسنين والمسيئين‏.‏

ومن هذه الجولة في مشاهد القيامة في العالم الآخر يعود بهم إلى هذا العالم، وإلى مشاهد الكون والحياة‏.‏

وإلى عجائب الخلق وأسرار النفس، وإلى خوارق الأحداث ومعجزات التكوين‏.‏ ويبدأ هذه الجولة بتسبيح الله حين تقلب الليل والنهار وحمد الله في الكون العريض بالعشي والأظهار‏:‏

‏{‏فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون‏.‏ وله الحمد في السماوات والأرض وعشياً وحين تظهرون‏.‏ يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون‏.‏ ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون‏.‏ ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة‏.‏ إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون‏.‏ ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم‏.‏ إن في ذلك لآيات للعالمين‏.‏ ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله‏.‏ إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون‏.‏ ومن آياته يريكم البرق خوفاً وطمعاً وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها‏.‏ إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون‏.‏ ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره، ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون‏.‏ وله من في السماوات والأرض كل له قانتون‏.‏ وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم‏}‏‏.‏‏.‏

إنها جولة ضخمة هائلة، لطيفة عميقة، بعيدة الآماد والأغوار‏.‏ جولة تطوّف بالقلب البشري في الأمسيات والأصباح، والسماوات والأرض، والعشي والأظهار، وتفتح هذا القلب لتدبر الحياة والموت والعمليات الدائبة في النشوء والدثور‏.‏ وترتد به إلى نشأة الإنسان الأولى، وإلى ما ركب في فطرته من ميول ونوازع، وقوى وطاقات، وما يقوم بين زوجيه من علائق وروابط، وفق تلك الميول والنوازع وهذه القوى والطاقات‏.‏ وتوجهه إلى آيات الله في خلق السماوات والأرض واختلاف الألسنة والألوان وفقاً لاختلاف البيئة والمكان‏.‏ وإلى تدبر ما يعتري الكائن البشري من نوم ويقظة وراحة وكد‏.‏ وإلى ما يعتري الكون من ظواهر البرق والمطر، وما تثيره في نفوس البشر من خوف وطمع، وفي بنية الأرض من حياة وازدهار‏.‏ وتمضي هذه الجولة العجيبة في النهاية بالقلب البشري إلى قيام السماوات والأرض في هذا كله بأمر الله؛ وإلى توجه من في السماوات والأرض كلهم لله‏.‏ وتنتهي بالحقيقة التي تتجلى حينئذ واضحة هينة يسيرة‏:‏ إن الله هو يبدئ ويعيد‏.‏ والإعادة أهون عليه‏.‏ وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم‏:‏

‏{‏فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون، وله الحمد في السماوات والأرض وعشياً وحين تظهرون‏}‏‏.‏‏.‏

إن ذلك التسبيح وهذا الحمد يجيئان تعقيباً على مشهد القيامة في الفقرة السابقة، وفوز المؤمنين بروضة فيها يحبرون، وانتهاء الكافرين المكذبين إلى شهود العذاب‏.‏ ومقدمة لهذه الجولة في ملكوت السماوات والأرض، وأغوار النفس وعجائب الخلق‏.‏

فيتسقان مع التعقيب على المشهد وعلى التقديم للجولة كل الاتساق‏.‏

والنص يربط التسبيح والحمد بالأوقات‏:‏ الإمساء والإصباح والعشي والأظهار؛ كما يربطهما بآفاق السماوات والأرض‏.‏ فيتقصى بهما الزمان والمكان؛ ويربط القلب البشري بالله في كل بقعة وفي كل أوان؛ ويشعر بتلك الرابطة في الخالق مع هيكل الكون ودورة الأفلاك وظواهر الليل والنهار والعشي والأظهار‏.‏‏.‏ ومن ثم يظل هذا القلب مفتوحاً يقظاً حساساً، وكل ما حوله من مشاهد وظواهر، وكل ما يختلف عليه من آونة وأحوال، يذكره بتسبيح الله وحمده؛ ويصله بخالقه وخالق المشاهد والظواهر والآونة والأحوال‏.‏

‏{‏يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، ويحيي الأرض بعد موتها‏.‏‏.‏ وكذلك تخرجون‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها‏}‏‏.‏‏.‏ تلك العملية الدائبة التي لا تكف ولا تني لحظة واحدة من لحظات الليل والنهار في كل مكان، على سطح الأرض، وفي أجواز الفضاء، وفي أعماق البحار‏.‏‏.‏ ففي كل لحظة يتم هذا التحول‏.‏ بل هذه المعجزة الخارقة التي لا ننتبه إليها لطول الألفة والتكرار‏.‏ في كل لحظة يخرج حي من ميت ويخرج ميت من حي‏.‏ وفي كل لحظة يتحرك برعم ساكن من جوف حبة أو نواة فيفلقها ويخرج إلى وجه الحياة؛ وفي كل لحظة يجف عود أو شجرة تستوفي أجلها فتتحول إلى هشيم أو حطام‏.‏ ومن خلال الهشيم والحطام توجد الحبة الجديدة الساكنة المتهيئة للحياة والإنبات؛ ويوجد الغاز الذي ينطلق في الجو أو تتعذى به التربة، وتستعد للإخصاب‏.‏ وفي كل لحظة تدب الحياة في جنين‏.‏ إنسان أو حيوان أو طائر‏.‏ والجثة التي ترمى في الأرض وتختلط بالتربة وتشحنها بالغازات هي مادة جديدة للحياة وغذاء جديد للنبات، فالحيوان والإنسان‏!‏ ومثل هذا يتم في أغوار البحار وفي أجواز الفضاء على السواء‏.‏

إنها دورة دائبة عجيبة رهيبة لن يتأملها بالحس الواعي والقلب البصير، ويراها على هدى القرآن ونوره المستمد من نور الله‏.‏

‏{‏وكذلك تخرجون‏}‏‏.‏‏.‏ فالأمر عادي واقعي لا غرابة فيه وليس بدعاً مما يشهده الكون في كل لحظة من لحظات الليل والنهار في كل مكان‏!‏

‏{‏ومن آياته أن خلقكم من تراب، ثم إذا أنتم بشر تنتشرون‏}‏‏.‏‏.‏

والتراب ميت ساكن؛ ومنه نشأ الإنسان‏.‏ وفي موضع آخر في القرآن جاء‏:‏ ‏{‏ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين‏}‏ فالطين هو الأصل البعيد للإنسان‏.‏ ولكن هنا يذكر هذا الأصل ويعقبه مباشرة بصورة البشر منتشرين متحركين‏.‏ للمقابلة في المشهد والمعنى بين التراب الميت الساكن والبشر الحي المتحرك‏.‏ وذلك بعد قوله‏:‏ ‏{‏يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي‏}‏ تنسيقاً للعرض على طريقة القرآن‏.‏

وهذه المعجزة الخارقة آية من آيات القدرة، وإيحاء كذلك بالصلة الوثيقة بين البشر وهذه الأرض التي يعيشون عليها؛ والتي يلتقون بها في أصل تكوينهم، وفي النواميس التي تحكمها وتحكمهم في نطاق الوجود الكبير‏.‏

والنقلة الضخمة من صورة التراب الساكن الزهيد إلى صورة الإنسان المتحرك الجليل القدر‏.‏‏.‏ نقلة تثير التأمل في صنع الله؛ وتستجيش الضمير للحمد والتسبيح لله؛ وتحرك القلب لتمجيد الصانع المتفضل الكريم‏.‏

ومن مجال الخلقة الأولى لنوع البشر ينتقل إلى مجال الحياة المشتركة بين جنسي البشر‏:‏

‏{‏ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة‏.‏ إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون‏}‏‏.‏‏.‏

والناس يعرفون مشاعرهم تجاه الجنس الآخر، وتشغل أعصابهم ومشاعرهم تلك الصلة بين الجنسين؛ وتدفع خطاهم وتحرك نشاطهم تلك المشاعر المختلفة الأنماط والاتجاهات بين الرجل والمرأة‏.‏ ولكنهم قلما يتذكرون يد الله التي خلقت لهم من أنفسهم أزواجاً، وأودعت نفوسهم هذه العواطف والمشاعر، وجعلت في تلك الصلة سكناً للنفس والعصب، وراحة للجسم والقلب، واستقراراً للحياة والمعاش، وأنساً للأرواح والضمائر واطمئناناً للرجل والمرأة على السواء‏.‏

والتعبير القرآني اللطيف الرفيق يصور هذه العلاقة تصويراً موحياً، وكأنما يلتقط الصورة من أعماق القلب وأغوار الحس‏:‏ ‏{‏لتسكنوا إليها‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏وجعل بينكم مودة ورحمة‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون‏}‏‏.‏‏.‏ فيدركون حكمة الخالق في خلق كل من الجنسين على نحو يجعله موافقاً للآخر‏.‏ ملبياً لحاجته الفطرية‏:‏ نفسية وعقلية وجسدية‏.‏ بحيث يجد عنده الراحة والطمأنينة والاستقرار؛ ويجدان في اجتماعهما السكن والاكتفاء، والمودة والرحمة، لأن تركيبهما النفسي والعصبي والعضوي ملحوظ فيه تلبية رغائب كل منهما في الآخر، وائتلافهما وامتزاجهما في النهاية لإنشاء حياة جديدة تتمثل في جيل جديد‏.‏‏.‏

‏{‏ومن آياته خلق السماوات والأرض، واختلاف ألسنتكم وألوانكم‏.‏ إن في ذلك لآيات للعالمين‏}‏‏.‏‏.‏

وآية خلق السماوات والأرض كثيراً ما يشار إليها في القرآن، وكثيراً ما نمر عليها سراعاً دون أن نتوقف أمامها طويلاً‏.‏‏.‏ ولكنها جديرة بطول الوقوف والتدبر العميق‏.‏

إن خلق السماوات والأرض معناه إنشاء هذا الخلق الهائل الضخم العظيم الدقيق؛ الذي لا نعرف عنه إلا أقل من القليل‏.‏ هذا الحشد الذي لا يحصى من الأفلاك والمدارات والنجوم والكواكب والسدم والمجرات‏.‏ تلك التي لا تزيد أرضنا الصغيرة عن أن تكون ذرة تائهة بينها تكاد أن تكون لا وزن لها ولا ظل‏!‏ ومع الضخامة الهائلة ذلك التناسق العجيب بين الأفلاك والمدارات والدورات والحركات؛ وما بينهما من مسافات وأبعاد تحفظها من التصادم والخلل والتخلف والاضطراب؛ وتجعل كل شيء في أمرها بمقدار‏.‏

ذلك كله من ناحية الحجم العام والنظام، فأما أسرار هذه الخلائق الهائلة وطبائعها وما يستكن فيها وما يظهر عليها؛ والنواميس الكبرى التي تحفظها وتحكمها وتصرفها‏.‏‏.‏ فهذا كله أعظم من أن يلم به الإنسان؛ وما عرف عنه إلا أقل من القليل، ودراسة هذا الكوكب الصغير الضئيل الذي نعيش على سطحه لم يتم منها حتى اليوم إلا القليل‏!‏

هذه لمحة خاطفة عن آية خلق السماوات والأرض التي نمر عليها سراعاً‏.‏

بينما نتحدث طويلاً‏.‏ وطويلاً جداً‏.‏ عن جهاز صغير يركبه علماء الإنسان؛ ويحتفظون فيه بالتناسق بين أجزائه المختلفة لتعمل كلها في حركة منتظمة دون تصادم ولا خلل فترة من الزمان‏!‏ ثم يستطيع بعض التائهين الضالين المنحرفين أن يزعم أن هذا الكون الهائل المنظم الدقيق العجيب وجد واستمر بدون خالق مدبر‏.‏ ويجد من يستطيع أن يسمع لهذا الهراء‏!‏ من العلماء‏!‏

ومع آية السماوات والأرض عجيبة اختلاف الألسنة والألوان‏.‏‏.‏ بين بني الإنسان‏.‏ ولا بد أنها ذات علاقة بخلق السماوات والأرض‏.‏ فاختلاف الأجواء على سطح الأرض واختلاف البيئات ذلك الاختلاف الناشئ من طبيعة وضع الأرض الفلكي، ذو علاقة باختلاف الألسنة والألوان‏.‏ مع اتحاد الأصل والنشأة في بني الإنسان‏.‏

وعلماء هذا الزمان يرون اختلاف اللغات والألوان؛ ثم يمرون عليه دون أن يروا فيه يد الله، وآياته في خلق السماوات والأرض‏.‏ وقد يدرسون هذه الظاهرة دراسة موضوعية‏.‏ ولكنهم لا يقفون ليمجدوا الخالق المدبر للظواهر والبواطن‏.‏ ذلك أن أكثر الناس لا يعلمون‏.‏ ‏{‏يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا‏}‏‏.‏ وآية خلق السماوات والأرض واختلاف الألسنة والألوان لا يراها إلا الذين يعلمون‏:‏ ‏{‏إن في ذلك لآيات للعالمين‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله‏.‏ إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون‏}‏‏.‏‏.‏

وهذه آية كذلك تجمع بين ظواهر كونية وما يتعلق بها من أحوال البشرية، وتربط بين هذه وتلك‏.‏ وتنسق بينهما في صلب هذا الوجود الكبير‏.‏‏.‏ تجمع بين ظاهرتي الليل والنهار ونوم البشر ونشاطهم ابتغاء رزق الله، الذي يتفضل به على العباد، بعد أن يبذلوا نشاطهم في الكد والابتغاء، وقد خلقهم الله متناسقين مع الكون الذي يعيشون فيه؛ وجعل حاجتهم إلى النشاط والعمل يلبيها الضوء والنهار؛ وحاجتهم إلى النوم والراحة يلبيها الليل والظلام‏.‏ مثلهم مثل جميع الأحياء على ظهر هذا الكوكب على نسب متفاوتة في هذا ودرجات‏.‏ وكلها تجد في نظام الكون العام ما يلبي طبيعتها ويسمح لها بالحياة‏.‏

‏{‏إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون‏}‏‏.‏‏.‏ والنوم والسعي سكون وحركة يدركان بالسمع‏.‏ ومن ثم يتناسق هذا التعقيب في الآية القرآنية مع الآية الكونية التي تتحدث عنها على طريقة القرآن الكريم‏.‏

‏{‏ومن آياته يريكم البرق خوفاً وطمعاً، وينزل من السماء ماءً فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون‏}‏‏.‏‏.‏

وظاهرة البرق ظاهرة ناشئة من النظام الكوني؛ ويعللها بعضهم بأنها تنشأ من انطلاق شرارة كهربائية بين سحابتين محملتين بالكهرباء، أو بين سحابة وجسم أرضي كقمة جبل مثلاً‏.‏ ينشأ عنها تفريغ في الهواء يتمثل في الرعد الذي يعقب البرق‏.‏ وفي الغالب يصاحب هذا وذلك تساقط المطر نتيجة لذلك التصادم‏.‏ وأياً ما كان السبب فالبرق ظاهرة ناشئة عن نظام هذا الكون كما خلقه البارئ وقدره تقديرا‏.‏

والقرآن الكريم حسب طبيعته لا يفصل كثيراً في ماهية الظواهر الكونية وعللها؛ إنما يتخذ منها أداة لوصل القلب البشري بالوجود وخالق الوجود‏.‏ ومن ثم يقرر هنا أنها آية من آيات الله أن يريهم البرق ‏{‏خوفاً وطمعاً‏}‏‏.‏‏.‏ وهما الشعوران الفطريان اللذان يتعاوران النفس البشرية أمام تلك الظاهرة‏.‏ شعور الخوف من الصواعق التي تحرق الناس والأشياء أحياناً عندما يبرق البرق‏.‏ أو الخوف الغامض من رؤية البرق وما يوقعه في الحس من الشعور بالقوة المصرفة لهيكل هذا الكون الهائل‏.‏ وشعور الطمع في الخير من وراء المطر الذي يصاحب البرق في معظم الأحوال؛ والذي عقب بذكره في الآية بعد ذكر البرق‏:‏ ‏{‏وينزل من السماء ماءً فيحيي به الأرض بعد موتها‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏

والتعبير بالحياة والموت بالقياس إلى الأرض تعبير يخيل أن الأرض كائن حيّ، يحيا ويموت‏.‏ وإنها لكذلك في حقيقتها التي يصورها القرآن الكريم‏.‏ فهذا الكون خليقة حية متعاطفة متجاوبة، مطيعة لربها خاضعة خاشعة، ملبية لأمره مسبحة عابدة‏.‏ والإنسان الذي يدب على هذا الكوكب الأرضي واحد من خلائق الله هذه، يسير معها في موكب واحد متجه إلى الله رب العالمين‏.‏

ذلك كله بالإضافة إلى أن الماء حين يصيب الأرض، يبعث فيها الخصب، فتنبت الزرع الحي النامي؛ وتموج صفحتها بالحياة المنبثقة في هذا النبات‏.‏ ومن ثم في الحيوان والإنسان‏.‏ والماء رسول الحياة فحيث كان تكون الحياة‏.‏

‏{‏إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون‏}‏‏.‏‏.‏ فهنا للعقل مجال للتدبر والتفكير‏.‏

‏{‏ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره، ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون‏.‏ وله من في السماوات والأرض كل له قانتون‏}‏‏.‏

وقيام السماء والأرض منتظمة سليمة مقدرة الحركات لا يكون إلا بقدرة من الله وتدبير‏.‏ وما من مخلوق يملك أن يدعي أنه هو أو سواه يفعل هذا‏.‏ وما من عاقل يملك أن يقول‏:‏ إن هذا كله يقع بدون تدبير‏.‏ وإذن فهي آية من آيات الله أن تقوم السماء والأرض بأمره، ملبية لهذا الأمر، طائعة له، دون انحراف ولا تلكؤ ولا اضطراب‏.‏

‏{‏ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون‏}‏‏.‏‏.‏

ومن يرى هذا التقدير في نظام الكون، وهذه السلطة على مقدراته، لا يشك في تلبية البشر الضعاف لدعوة تصدر إليهم من الخالق القادر العظيم، بالخروج من القبور‏!‏

ثم يأتي الإيقاع الأخير ختاماً لهذا التقرير؛ فإذا كل من في السماوات والأرض من خلائق قانتون لله طائعون‏.‏

‏{‏وله من في السماوات والأرض كل له قانتون‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏

ولقد نرى أن الكثيرين من الناس لا قانتين لله ولا عابدين‏.‏ ولكن هذا التقرير إنما يعني خضوع كل من في السماوات والأرض لإرادة الله ومشيئته التي تصرفهم وفق السنة المرسومة التي لا تتخلف ولا تحيد‏.‏ فهم محكومون بهذه السنة ولو كانوا كافرين‏.‏

إنما تعصى عقولهم وتكفر قلوبهم ولكنهم مع هذا محكومون بالناموس مأخوذون بالسنة، يتصرف فيهم خالقهم وفق ما يريد تصرفه بباقي العبيد وهم لا يملكون إلا الخضوع والقنوت‏.‏

ثم يختم تلك الجولة الضخمة الهائلة اللطيفة العميقة بتقرير قضية البعث والقيامة التي يغفل عنها الغافلون‏:‏

‏{‏وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض، وهو العزيز الحكيم‏}‏‏.‏‏.‏

وقد سبق في السورة تقرير البدء والإعادة، وهو يعاد هنا بعد تلك الجولة العريضة ويضاف إليه جديد‏:‏ ‏{‏وهو أهون عليه‏}‏‏.‏‏.‏ وليس شيء أهون على الله ولا أصعب‏.‏ ‏{‏إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له‏:‏ كن‏.‏ فيكون‏}‏ ولكنه إنما يخاطب الناس بحسب إدراكهم، ففي تقدير الناس أن بدء الخلق أصعب من إعادته، فما بالهم يرون الإعادة عسيرة على الله‏.‏ وهي في طبيعتها أهون وأيسر‏؟‏‏!‏

‏{‏وله المثل الأعلى في السماوات والأرض‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ فهو سبحانه ينفرد في السماوات والأرض بصفاته لا يشاركه فيها أحد، وليس كمثله شيء، إنما هو الفرد الصمد‏.‏

‏{‏وهو العزيز الحكيم‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ العزيز القاهر الذي يفعل ما يريد‏.‏ الحكيم الذي يدبر الخلق بإحكام وتقدير‏.‏

وعندما تنتهي تلك الجولة التي طوف فيها القلب البشري بتلك الآفاق والآماد، والأعماق والأغوار، والظواهر والأحوال، يواجهه سياق السورة بإيقاع جديد‏:‏

‏{‏ضرب لكم مثلاً من أنفسكم‏:‏ هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم‏.‏ فأنتم فيه سواء، تخافونهم كخيفتكم أنفسكم‏؟‏ كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون‏}‏‏.‏‏.‏

ضرب هذا المثل لمن كانوا يتخذون من دون الله شركاء خلقاً من خلقه‏:‏ جناً أو ملائكة أو أصناماً وأشجاراً‏.‏ وهم لا يرتضون أن يشاركهم مواليهم في شيء مما تحت أيديهم من مال‏.‏ ولا يسوون عبيدهم بأنفسهم في شيء من الاعتبار‏.‏ فيبدو أمرهم عجباً‏.‏ يجعلون لله شركاء من عبيده وهو الخالق الرازق وحده‏.‏ ويأنفون أن يجعلوا لأنفسهم من عبيدهم شركاء في مالهم‏.‏ وما لهم ليس من خلقهم إنما هو من رزق الله‏.‏ وهو تناقض عجيب في التصور والتقدير‏.‏

وهو يفصل لهم هذا المثل خطوة خطوة‏:‏ ‏{‏ضرب لكم مثلاً من أنفسكم‏}‏ ليس بعيداً عنكم ولا يحتاج إلى رحلة أو نقلة لملاحظته وتدبره‏.‏‏.‏ ‏{‏هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏ وهم لا يرضون أن يشاركهم ما ملكت أيمانهم في شيء من الرزق فضلاً على أن يساووهم فيه ‏{‏تخافونهم كخيفتكم أنفسكم‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ أي تحسبون حسابهم معكم كما تحسبون حساب الشركاء الأحرار، وتخشون أن يجوروا عليكم، وتتحرجوا كذلك من الجور عليهم، لأنهم أكفاء لكم وأنداد‏؟‏ هل يقع شيء من هذا في محيطكم القريب وشأنكم الخاص‏؟‏ وإذا لم يكن شيء من هذا يقع فكيف ترضونه في حق الله وله المثل الأعلى‏؟‏

وهو مثل واضح بسيط حاسم لا مجال للجدل فيه، وهو يرتكن إلى المنطق البسيط وإلى العقل المستقيم‏:‏ ‏{‏كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون‏}‏‏.‏

‏.‏‏.‏

وعند هذا الحد من عرض تناقضهم في دعوى الشرك المتهافتة، يكشف عن العلة الأصيلة في هذا التناقض المريب‏:‏ إنه الهوى الذي لا يستند على عقل أو تفكير‏:‏

‏{‏بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم‏.‏ فمن يهدي من أضل الله‏؟‏ وما لهم من ناصرين‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏

والهوى لا ضابط له ولا مقياس‏.‏ إنما هو شهوة النفس المتقلبة ونزوتها المضطربة، ورغباتها ومخاوفها‏.‏ وآمالها ومطامعها التي لا تستند إلى حق ولا تقف عند حد ولا تزن بميزان‏.‏ وهو الضلال الذي لا يرجى معه هدى، والشرود الذي لا ترجى معه أوبة‏:‏ ‏{‏فمن يهدي من أضل الله‏؟‏‏}‏ نتيجة لاتباعه هواه‏؟‏ ‏{‏وما لهم من ناصرين‏}‏ يمنعونهم من سوء المصير‏.‏

وعند هذا الحد يفرغ من أمر هؤلاء الذين يتبعون أهواءهم المتقلبة المضطربة؛ ويتجه بالخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليستقيم على دين الله الثابت المستند على فطرة الله التي فطر الناس عليها؛ وهو عقيدة واحدة ثابتة لا تتفرق معها السبل كما تفرق المشركون شيعاً وأحزاباً مع الأهواء والنزوات‏!‏

‏{‏فأقم وجهك للدين حنيفاً‏.‏ فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخق الله‏.‏ ذلك الدين القيم‏.‏ ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏.‏ منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين‏.‏ من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون‏}‏‏.‏‏.‏

هذا التوجيه لإقامة الوجه للدين القيم يجيء في موعده، وفي موضعه، بعد تلك الجولات في ضمير الكون ومشاهده، وفي أغوار النفس وفطرتها‏.‏‏.‏ يجيء في أوانه وقد تهيأت القلوب المستقيمة الفطرة لاستقباله؛ كما أن القلوب المنحرفة قد فقدت كل حجة لها وكل دليل، ووقفت مجردة من كل عدة لها وكل سلاح‏.‏‏.‏ وهذا هو السلطان القوي الذي يصدع به القرآن‏.‏ السلطان الذي لا تقف له القلوب ولا تملك رده النفوس‏.‏

‏{‏فأقم وجهك للدين حنيفاً‏}‏‏.‏‏.‏ واتجه إليه مستقيماً‏.‏ فهذا الدين هو العاصم من الأهواء المتفرقة التي لا تستند على حق، ولا تستمد من علم، إنما تتبع الشهوات، والنزوات بغير ضابط ولا دليل‏.‏‏.‏‏.‏ أقم وجهك للدين حينفاً مائلاً عن كل ما عداه، مستقيماً على نهيه دون سواه‏:‏

‏{‏فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله‏}‏‏.‏‏.‏ وبهذا يربط بين فطرة النفس البشرية وطبيعة هذا الدين؛ وكلاهما من صنع الله؛ وكلاهما موافق لناموس الوجود؛ وكلاهما متناسق مع الآخر في طبيعته واتجاهه‏.‏ والله الذي خلق القلب البشري هو الذي أنزل إليه هذا الدين ليحكمه ويصرفه ويطب له من المرض ويقومه من الانحراف‏.‏ وهو أعلم بمن خلق وهو اللطيف الخبير‏.‏ والفطرة ثابتة والدين ثابت‏:‏ ‏{‏لا تبديل لخلق الله‏}‏‏.‏ فإذا انحرفت النفوس عن الفطرة لم يردها إليها إلا هذا الدين المتناسق مع الفطرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 60‏]‏

‏{‏وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ‏(‏33‏)‏ لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏34‏)‏ أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ ‏(‏35‏)‏ وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ ‏(‏36‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏37‏)‏ فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏38‏)‏ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ‏(‏39‏)‏ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏40‏)‏ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏41‏)‏ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ ‏(‏42‏)‏ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ‏(‏43‏)‏ مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ‏(‏44‏)‏ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ‏(‏45‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏46‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏47‏)‏ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ‏(‏48‏)‏ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ ‏(‏49‏)‏ فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏50‏)‏ وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ ‏(‏51‏)‏ فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ‏(‏52‏)‏ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏53‏)‏ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ‏(‏54‏)‏ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ ‏(‏55‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏56‏)‏ فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ‏(‏57‏)‏ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآَيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ ‏(‏58‏)‏ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏59‏)‏ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

يمضي هذا الشوط من السورة في مجالها الأصيل‏.‏ المجال الكوني العام الذي ترتبط به أقدار الناس وأقدار الأحداث؛ والذي تتناسق فيه سنن الكون وسنن الدين القيم بلا تعارض ولا اصطدام‏.‏

وفي هذا الشوط يرسم صورة لتقلب الأهواء البشرية أمام ثبات السنن؛ ووهن عقائد الشرك أمام قوة الدين القيم‏.‏ ويصور نفوس البشر في السراء والضراء وعند قبض الرزق وبسطه، وهي تضطرب في تقديراتها وتصوراتها ما لم تستند إلى ميزان الله الذي لا يضطرب أبداً، وما لم ترجع إلى قدر الله الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر‏.‏ وبمناسبة الرزق يوجههم إلى الطريقة التي تنمي المال وتزكيه‏.‏ الطريقة المتفقة مع النهج القيم والطريق الواصل‏.‏ ويردهم بهذا إلى معرفة الخالق الرازق الذي يميت ويحيي‏.‏ أما الشركاء الذين يتخذونهم من دون الله فماذا يفعلون‏؟‏ وينبههم إلى الفساد الذي تنشئه عقيدة الشرك في كل مكان‏.‏ كما يوجه الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين إلى الاستقامة على منهجهم القيم‏.‏ قبل أن يأتي اليوم الذي لا عمل فيه ولا كسب، ولكن حساب وجزاء عما كانوا يعملون‏.‏ وفي معرض الحديث عن رزق الله يوجه قلوبهم إلى أنماط من هذا الرزق‏.‏ منها ما يتعلق بحياتهم المادية كالماء النازل من السماء الذي يحيي الأرض بعد موتها‏.‏ وتجري الفلك فيه بأمره‏.‏ ومنها تلك الآيات البينات التي تنزل على الرسول لإحياء موات القلوب والنفوس، ولكنهم لا يهتدون ولا يسمعون‏.‏ ويطوف بهم في جولة مع أطوار نشأتهم وحياتهم حتى ينتهوا إلى خالقهم، فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون‏.‏‏.‏ ويختم هذا الشوط بتثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم وتوجيهه إلى الصبر حتى يتحقق وعد الله الحق اليقين‏.‏

‏{‏وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه، ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون، ليكفروا بما آتيناهم، فتمتعوا فسوف تعلمون‏.‏ أم أنزلنا عليهم سلطاناً فهو يتكلم بما كانوا به يشركون‏؟‏ وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها، وإن تصيبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون‏.‏ أو لم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر‏؟‏ إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏

إنها صورة للنفس البشرية التي لا تستمد من قيمة ثابتة، ولا تسير على نهج واضح‏.‏ صورة لها وهي تتأرجح بين الانفعالات الطارئة، والتصورات العارضة، والاندفاعات مع الأحداث والتيارات‏.‏ فعند مس الضر يذكر الناس ربهم، ويلجأون إلى القوة التي لا عاصم إلا إياها، ولا نجاة إلا بالإنابة إليها‏.‏ حتى إذا انكشفت الغمة، وانفرجت الشدة، وأذاقهم الله رحمة منه‏:‏ ‏{‏إذا فريق منهم بربهم يشركون‏}‏‏.‏‏.‏ وهو الفريق الذي لا يستند إلى عقيدة صحيحة تهديه إلى نهج مستقيم‏.‏

ذلك أن الرخاء يرفع عنهم الاضطرار الذي ألجأهم إلى الله؛ وينسيهم الشدة التي ردتهم إليه‏.‏ فيقودهم هذا إلى الكفر بما آتاهم الله من الهدى وما آتاهم من الرحمة، بدلاً من الشكر والاستقامة على الإنابة‏.‏

وهنا يعاجل هذا الفريق بالتهديد في أشخاص المشركين الذين كانوا يواجهون الرسالة المحمدية، فيوجه إليهم الخطاب، ويحدد أنهم من هذا الفريق الذي يعنيه‏:‏

‏{‏فتمتعوا فسوف تعلمون‏}‏‏.‏‏.‏

وهو تهديد ملفوف، هائل مخيف‏.‏ وإن الإنسان ليخاف من تهديد حاكم أو رئيس فكيف وهذا التهديد من فاطر هذا الكون الهائل، الذي أنشأه كله بقولة‏:‏ كن‏!‏ ‏{‏فتمتعوا فسوف تعلمون‏}‏ ‏!‏

وبعد هذه المعاجلة بالتهديد الرعيب يعود فيسأل في استنكار عن سندهم في هذا الشرك الذي يجازون به نعمة الله ورحمته؛ وهذا الكفر الذي ينتهون إليه‏:‏

‏{‏أم أنزلنا عليهم سلطاناً فهو يتكلم بما كانوا به يشركون‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

فإنه لا ينبغي لبشر أن يتلقى شيئاً في أمر عقيدته إلا من الله‏.‏ فهل أنزلنا عليهم حجة ذات قوة وسلطان تشهد بهذا الشرك الذي يتخذونه‏؟‏ وهو سؤال استنكاري تهكمي، يكشف عن تهافت عقيدة الشرك، التي لا تستند إلى حجة ولا تقوم على دليل‏.‏ ثم هو سؤال تقريري من جانب آخر، يقرر أنه لا عقيدة إلا ما يتنزل من عند الله‏.‏ وما يأتي بسلطان من عنده‏.‏ وإلا فهو واهن ضعيف‏.‏

ثم يعرض صفحة أخرى من صفحات النفس البشرية في الفرح بالرحمة فرح الخفة والاغترار؛ والقنوط من الشدة واليأس من رحمة الله‏:‏

‏{‏وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها، وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون‏}‏‏.‏‏.‏

وهي كذلك صورة للنفس التي لا ترتبط بخط ثابت تقيس إليه أمرها في جميع الأحوال؛ وميزان دقيق لا يضطرب مع التقلبات‏.‏ والناس هنا مقصود بهم أولئك الذين لا يرتبطون بذلك الخط ولا يزنون بهذا الميزان‏.‏ فهم يفرحون بالرحمة فرح البطر الذي ينسيهم مصدرها وحكمتها، فيطيرون بها، ويستغرقون فيها، ولا يشكرون المنعم، ولا يستيقظون إلى ما في النعمة من امتحان وابتلاء‏.‏ حتى إذا شاءت إرادة الله أن تأخذهم بعملهم فتذيقهم حالة ‏{‏سيئة‏}‏ عموا كذلك عن حكمة الله في الابتلاء بالشدة، وفقدوا كل رجاء في أن يكشف الله عنهم الغمة؛ وقنطوا من رحمته ويئسوا من فرجه‏.‏‏.‏ وذلك شأن القلوب المنقطعة عن الله، التي لا تدرك سننه ولا تعرف حكمته‏.‏ أولئك الذين لا يعلمون‏.‏ يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا‏!‏

ويعقب على هذه الصورة بسؤال استنكاري يعجب فيه من أمرهم، وقصر نظرهم وعمى بصيرتهم‏.‏ فالأمر في السراء والضراء يتبع قانوناً ثابتاً، ويرجع إلى مشيئة الله سبحانه، فهو الذي ينعم بالرحمة، ويبتلي بالشدة؛ ويبسط الرزق ويضيقه وفق سنته، وبمقتضى حكمته‏.‏ وهذا ما يقع كل آن، ولكنهم هم لا يبصرون‏:‏

‏{‏أو لم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر‏؟‏‏}‏‏.‏

فلا داعي للفرح والبطر عند البسط، ولا لليأس والقنوط عند القبض؛ فإنما هي أحوال تتعاور الناس وفق حكمة الله، وفيها للقلب المؤمن دلالة على أن مرد الأمر كله لله، ودلالة على اطراد السنة، وثبات النظام، رغم تقلب الأحوال‏:‏

‏{‏إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون‏}‏‏.‏‏.‏

وإذا كان الله هو الذي يبسط الرزق ويقبضه؛ وهو الذي يعطي ويمنع وفق مشيئته؛ فهو يبين للناس الطريق الذي تربو أموالهم فيه وتربح‏.‏ لا كما يظنون هم، بل كما يهديهم الله‏:‏

‏{‏فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل‏.‏ ذلك خير للذين يريدون وجه الله؛ وأولئك هم المفلحون‏.‏ وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله؛ وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون‏}‏‏.‏‏.‏

وما دام المال مال الله، أعطاه رزقاً لبعض عباده، فالله صاحب المال الأول قد قرر قسماً منه لفئات من عباده، يؤديها إليهم من يضع يده على ذلك المال‏.‏ ومن ثم سماها حقاً‏.‏ ويذكر هنا من هذه الفئات ‏{‏ذا القربى والمسكين وابن السبيل‏}‏‏.‏ ولم تكن الزكاة بعد قد حددت ولا مستحقوها قد حصروا‏.‏ ولكن المبدأ كان قد تقرر‏.‏ مبدأ أن المال مال الله، بما أنه هو الرازق به، وأن لفئات من المحتاجين حقاً فيه مقرراً لهم من صاحب المال الحقيقي، يصل إليهم عن طريق واضع اليد على هذا المال‏.‏‏.‏ وهذا هو أساس النظرية الإسلامية في المال‏.‏ وإلى هذا الأساس ترجع جميع التفريعات في النظرية الاقتصادية للإسلام‏.‏ فما دام المال مال الله، فهو خاضع إذن لكل ما يقرره الله بشأنه بوصفه المالك الأول، سواء في طريقة تملكه أو في طريقة تنميته، أو في طريقة إنفاقه‏.‏ وليس واضع اليد حراً في أن يفعل به ما يشاء‏.‏

وهو هنا يوجه أصحاب المال الذين اختارهم ليكونوا أمناء عليه إلى خير الطرق للتنمية والفلاح‏.‏ وهي إيتاء ذي القربى والمسكين وابن السبيل، والإنفاق بصفة عامة في سبيل الله‏:‏ ‏{‏ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون‏}‏‏.‏‏.‏

وكان بعضهم يحاول تنمية ماله بإهداء هدايا إلى الموسرين من الناس، كي ترد عليه الهدية مضاعفة‏!‏ فبين لهم أن هذا ليس الطريق للنماء الحقيقي‏:‏ ‏{‏وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله‏}‏‏.‏‏.‏ هذا ما تذكره الروايات عن المقصود بالآية وإن كان نصها بإطلاقه يشمل جميع الوسائل التي يريد بها أصحابها أن ينموا أموالهم بطريقة ربوية في أي شكل من الأشكال‏.‏‏.‏ وبين لهم في الوقت ذاته وسيلة النماء الحقيقية‏:‏

‏{‏وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏

هذه هي الوسيلة المضمونة لمضاعفة المال‏:‏ إعطاؤه بلا مقابل وبلا انتظار رد ولا عوض من الناس‏.‏

إنما هي إرادة وجه الله‏.‏ أليس هو الله الذي يبسط الرزق ويقدر‏؟‏ أليس هو الذي يعطي الناس ويمنع‏؟‏ فهو الذي يضاعف إذن للمنفقين ابتغاء وجهه؛ وهو الذي ينقص مال المرابين الذين يبتغون وجوه الناس‏.‏‏.‏ ذلك حساب الدنيا، وهناك حساب الآخرة وفيه أضعاف مضاعفة‏.‏ فهي التجارة الرابحة هنا وهناك‏!‏

ومن زاوية الرزق والكسب يعالج قضية الشرك، وآثارها في حياتهم وفي حياة من قبلهم، ويعرض نهاية المشركين من قبل وعاقبتهم التي تشهد بها آثارهم‏:‏

‏{‏الله الذي خلقكم، ثم رزقكم، ثم يميتكم ثم يحييكم‏.‏ هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء‏؟‏ سبحانه وتعالى عما يشركون‏.‏ ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون‏.‏ قل‏:‏ سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين‏}‏‏.‏‏.‏

وهو يواجههم بواقع أمرهم وحقائق حالهم التي لا يملكون أن يماروا في أن الله وحده هو موجدها؛ أو التي لا يملكون أن يزعموا أن لآلهتهم المدعاة مشاركة فيها‏.‏ يواجههم بأن الله هو الذي خلقهم‏.‏ وأنه هو الذي رزقهم‏.‏ وأنه هو يميتهم‏.‏ وأنه هو يحييهم‏.‏ فأما الخلق فهم يقرون به‏.‏ وأما الرزق فهم لا يملكون أن يزعموا أن آلهتهم المدعاة ترزقهم شيئاً‏.‏ وأما الإماتة فلا حجة لهم على غير ما يقرره القرآن فيها‏.‏ بقي الإحياء وكانوا يمارون في وقوعه‏.‏ وهو يسوقه إليهم ضمن هذه المسلمات ليقرره في وجدانهم بهذه الوسيلة الفريدة، التي تخاطب فطرتهم من وراء الانحراف الذي أصابهم‏.‏ وما تملك الفطرة أن تنكر أمر البعث والإعادة‏.‏

ثم يسألهم‏:‏ ‏{‏هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء‏؟‏‏}‏ ولا ينتظر جواباً منهم، فهو سؤال للنفي في صورة التقريع غير محتاج إلى جواب‏!‏ إنما يعقب عليه بتنزيه الله‏:‏ ‏{‏سبحانه وتعالى عما يشركون‏}‏‏.‏

ثم يكشف لهم عن ارتباط أحوال الحياة وأوضاعها بأعمال الناس وكسبهم؛ وأن فساد قلوب الناس وعقائدهم وأعمالهم يوقع في الأرض الفساد، ويملؤها براً وبحراً بهذا الفساد، ويجعله مسيطراً على أقدارها، غالباً عليها‏:‏

‏{‏ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏

فظهور الفساد هكذا واستعلاؤه لا يتم عبثاً، ولا يقع مصادفة؛ إنما هو تدبير الله وسنته‏.‏‏.‏ ‏{‏ليذيقهم بعض الذي عملوا‏}‏ من الشر والفساد، حينما يكتوون بناره، ويتألمون لما يصيبهم منه‏:‏ ‏{‏لعلهم يرجعون‏}‏ فيعزمون على مقاومة الفساد، ويرجعون إلى الله وإلى العمل الصالح وإلى المنهج القويم‏.‏

ويحذرهم في نهاية هذه الجولة أن يصيبهم ما أصاب المشركين قبلهم، وهم يعرفون عاقبة الكثيرين منهم، ويرونها في آثارهم حين يسيرون في الأرض، ويمرون بهذه الآثار في الطريق‏:‏

‏{‏قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين‏}‏‏.‏

وكانت عاقبتهم ما يرون حين يسيرون في الأرض؛ وهي عاقبة لا تشجع أحداً على سلوك ذلك الطريق‏!‏

وعند هذا المقطع يشير إلى الطريق الآخر الذي لا يضل سالكوه، وإلى الأفق الآخر الذي لا يخيب قاصدوه‏.‏

‏{‏فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله‏.‏ يومئذ يصدعون‏.‏ من كفر فعليه كفره؛ ومن عمل صالحاً فلأنفسهم يمهدون‏.‏ ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله‏.‏ إنه لا يحب الكافرين‏}‏‏.‏

والصورة التي يعبر بها عن الاتجاه إلى الدين القيم صورة موحية معبرة عن كمال الاتجاه، وجديته، واستقامته‏:‏ ‏{‏فأقم وجهك للدين القيم‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ وفيها الاهتمام والانتباه والتطلع، واستشراف الوجهة السامية والأفق العالي والاتجاه السديد‏.‏

وقد جاء هذا التوجيه أول مرة في السورة بمناسبة الكلام عن الأهواء المتفرقة والأحزاب المختلفة‏.‏ أما هنا فيجيء بمناسبة الشركاء، والرزق ومضاعفته، والفساد الناشئ من الشرك، وما يذوقه الناس في الأرض من ظهور الفساد واستعلائه، وعاقبة المشركين في الأرض‏.‏ يجيء بهذه المناسبة فيبين جزاء الآخرة ونصيب المؤمنين والكافرين فيها؛ ويحذرهم من يوم لا مرد له من الله‏.‏ يوم يتفرقون فريقين‏:‏ ‏{‏من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحاً فلأنفسهم يمهدون‏}‏‏.‏‏.‏

ويَمهَد معناه يُمهِّد ويُعبِّد، ويعد المهد الذي فيه يستريح، ويهيء الطريق أو المضجع المريح‏.‏ وكلها ظلال تتجمع وتتناسق، لتصور طبيعة العمل الصالح ووظيفته‏.‏ فالذي يعمل العمل الصالح إنما يمهد لنفسه ويهيء أسباب الراحة في ذات اللحظة التي يقوم فيها بالعمل الصالح لا بعدها‏.‏ وهذا هو الظل الذي يلقيه التعبير‏.‏ وذلك‏:‏ ‏{‏ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏من فضله‏}‏‏.‏‏.‏ فما يستحق أحد من بني آدم الجنة بعمله‏.‏ وما يبلغ مهما عمل أن يشكر الله على جزء من فضله‏.‏ إنما هو فضل الله ورحمته بالمؤمنين‏.‏ وكراهيته سبحانه للكافرين‏:‏ ‏{‏إنه لا يحب الكافرين‏}‏‏.‏‏.‏

بعد ذلك يأخذ معهم في جولة أخرى تكشف عن بعض آيات الله، وما فيها من فضل الله ورحمته، فيما يهبهم من رزق وهدى ينزل عليهم، فيعرفون بعضه وينكرون بعضه‏.‏ ثم لا يشكرون ولا يهتدون‏.‏

‏{‏ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات، وليذيقكم من رحمته، ولتجري الفلك بأمره، ولتبتغوا من فضله، ولعلكم تشكرون‏.‏ ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً إلى قومهم فجاءوهم بالبينات، فانتقمنا من الذين أجرموا، وكان حقاً علينا نصر المؤمنين‏.‏ الله الذي يرسل الرياح، فتثير سحاباً، فيبسطه في السماء كيف يشاء، ويجعله كسفاً، فترى الودق يخرج من خلاله، فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون‏.‏ وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين‏.‏ فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها‏.‏ إن ذلك لمحيي الموتى، وهو على كل شيء قدير‏.‏ ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفراً لظلوا من بعده يكفرون‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏

إنه يجمع في هذه الآيات بين إرسال الرياح مبشرات، وإرسال الرسل بالبينات، ونصر المؤمنين بالرسل، وإنزال المطر المحيي، وإحياء الموتى وبعثهم‏.‏

‏.‏ وهو جمع له مغزاه‏.‏‏.‏ إنها كلها من رحمة الله، وكلها تتبع سنة الله‏.‏ وبين نظام الكون، ورسالات الرسل بالهدى، ونصر المؤمنين، صلة وثيقة‏.‏ وكلها من آيات الله‏.‏ ومن نعمته ورحمته، وبها تتعلق حياتهم، وهي مرتبطة كلها بنظام الكون الأصيل‏.‏

‏{‏ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ تبشر بالمطر‏.‏ وهم يعرفون الريح الممطرة بالخبرة والتجربة فيستبشرون بها‏.‏ ‏{‏وليذيقكم من رحمته‏}‏ بآثار هذه البشرى من الخصب والنماء‏.‏ ‏{‏ولتجري الفلك بأمره‏}‏ سواء بدفع الرياح لها؛ أو بتكوين الأنهار من الأمطار فتجري السفن فيها‏.‏ وهي تجري مع هذا بأمر الله‏.‏ ووفق سنته التي فطر عليها الكون؛ وتقديره الذي أودع كل شيء خاصيته ووظيفته، وجعل من شأن هذا أن تخف الفلك على سطح الماء فتسير، وأن تدفعها الرياح فتجري مع التيار وضد التيار‏.‏ وكل شيء عنده بمقدار‏.‏‏.‏ ‏{‏ولتبتغوا من فضله‏}‏ في الرحلات التجارية، وفي الزرع والحصاد، وفي الأخذ والعطاء‏.‏ وكله من فضل الله الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً‏.‏ ‏{‏ولعلكم تشكرون‏}‏ على نعمة الله في هذا كله‏.‏‏.‏ وهذا توجيه إلى ما ينبغي أن يقابل به العباد نعمة الله الوهاب‏.‏

ومثل إرسال الرياح مبشرات إرسال الرسل بالبينات‏:‏

‏{‏ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً إلى قومهم فجاءوهم بالبينات‏}‏‏.‏‏.‏

ولكن الناس لم يستقبلوا رحمة الله هذه وهي أجل وأعظم استقبالهم للرياح المبشرات‏.‏ ولا انتفعوا بها وهي أنفع وأدوم انتفاعهم بالمطر والماء‏!‏ ووقفوا تجاه الرسل فريقين‏:‏ مجرمين لا يؤمنون ولا يتدبرون ولا يكفون عن إيذاء الرسل والصد عن سبيل الله‏.‏ ومؤمنين يدركون آيات الله، ويشكرون رحمته، ويثقون بوعده، ويحتملون من المجرمين ما يحتملون‏.‏‏.‏ ثم كانت العاقبة التي تتفق مع عدل الله ووعده الوثيق‏.‏

‏{‏فانتقمنا من الذين أجرموا‏.‏ وكان حقاً علينا نصر المؤمنين‏}‏‏.‏‏.‏

وسبحان الذي أوجب على نفسه نصر المؤمنين؛ وجعله لهم حقاً، فضلاً وكرماً‏.‏ وأكده لهم في هذه الصيغة الجازمة التي لا تحتمل شكاً ولا ريباً‏.‏ وكيف والقائل هو الله القوي العزيز الجبار المتكبر، القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير‏.‏ يقولها سبحانه معبرة عن إرادته التي لا ترد، وسنته التي لا تتخلف، وناموسه الذي يحكم الوجود‏.‏

وقد يبطئ هذا النصر أحياناً في تقدير البشر لأنهم يحسبون الأمور بغير حساب الله، ويقدرون الأحوال لا كما يقدرها الله‏.‏ والله هو الحكيم الخبير‏.‏ يصدق وعده في الوقت الذي يريده ويعلمه، وفق مشيئته وسنته‏.‏ وقد تتكشف حكمة توقيته وتقديره للبشر وقد لا تتكشف‏.‏ ولكن إرادته هي الخير وتوقيته هو الصحيح‏.‏ ووعده القاطع واقع عن يقين، يرتقبه الصابرون واثقين مطمئنين‏.‏

بعد ذلك يمضي السياق يقرر أن الله هو الذي يرسل الرياح، وينزل المطر، ويحيي الأرض بعد موتها، وكذلك يحيي الموتى فيبعثون‏.‏

‏.‏ سنة واحدة، وطريقة واحدة، وحلقات في سلسلة الناموس الكبير‏:‏

‏{‏الله الذي يرسل الرياح‏}‏‏.‏‏.‏ وفق ناموسه في تكوين هذا الكون وتنظيمه وتصريفه‏.‏ ‏{‏فتثير سحاباً‏}‏‏.‏ بما تحمله من بخار الماء المتصاعد من كتلة الماء في الأرض‏.‏ ‏{‏فيبسطه في السماء‏}‏‏.‏‏.‏ ويفرشه ويمده‏.‏ ‏{‏ويجعله كسفاً‏}‏‏.‏‏.‏ بتجميعه وتكثيفه وتراكمه بعضه فوق بعض، أو يصطدم بعضه ببعض، أو تنبعث شرارة كهربائية بين طبقة منه وطبقة، أو كسفة منه وكسفة‏.‏ ‏{‏فترى الودق يخرج من خلاله‏}‏ وهوالمطر يتساقط من خلال السحاب‏.‏ ‏{‏فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون‏}‏‏.‏‏.‏ ولا يعرف هذا الاستبشار على حقيقته كما يعرفه الذين يعيشون مباشرة على المطر‏.‏ والعرب أعرف الناس بهذه الإشارة‏.‏ وحياتهم كلها تقوم على ماء السماء، وقد تضمنت ذكره أشعارهم وأخبارهم في لهفة وحب وإعزاز‏!‏

‏{‏وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين‏}‏‏.‏‏.‏

وهذا تقرير لحالهم قبل أن ينزل عليهم المطر‏:‏ حولهم من اليأس والقنوط والهمود‏.‏‏.‏ ثم هم يستبشرون‏.‏‏.‏ ‏{‏فانظر إلى آثار رحمة الله‏}‏‏.‏‏.‏ ‏!‏ انظر إليها في النفوس المستبشرة بعد القنوط، وفي الأرض المستبشرة بعد الهمود؛ وفي الحياة التي تدب في التربة وتدب في القلوب‏.‏

‏{‏فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها‏}‏‏.‏‏.‏ إنها حقيقة واقعة منظورة، لا تحتاج إلى أكثر من النظر والتدبر‏.‏ ومن ثم يتخذها برهاناً على قضية البعث والإحياء في الآخرة‏.‏ على طريقة الجدل القرآني، الذي يتخذ من مشاهد الكون المنظورة، وواقع الحياة المشهودة، مادته وبرهانه؛ ويجعل من ساحة الكون العريض مجاله وميدانه‏:‏

‏{‏إن ذلك لمحيي الموتى‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏وهو على كل شيء قدير‏}‏‏.‏‏.‏

وهذه آثار رحمة الله في الأرض تنطق بصدق هذا الوعد وتؤكد هذا المصير‏.‏

وبعد تقرير هذه الحقيقة يمضي في تصوير حال القوم الذين يستبشرون بالرياح المحملة بالماء؛ ويستروحون بآثار رحمة الله عند نزوله من السماء‏.‏‏.‏ يمضي في تصوير حالهم لو كانت الريح التي رأوها مصفرة بما تحمل من رمل وتراب لا من ماء وسحاب وهي الريح المهلكة للزرع والضرع أو التي يصفر منها الزرع فيصير حطاماً‏:‏

‏{‏ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفراً لظلوا من بعده يكفرون‏}‏‏.‏‏.‏

يكفرون سخطاً ويأسا، بدلاً من أن يستسلموا لقضاء الله، ويتوجهوا إليه بالضراعة ليرفع عنهم البلاء‏.‏ وهي حال من لا يؤمن بقدر الله، ولا يهتدي ببصيرته إلى حكمة الله في تدبيره، ولا يرى من وراء الأحداث يد الله التي تنسق هذا الكون كله؛ وتقدر كل أمر وكل حادث‏.‏ وفق ذلك التنسيق الشامل للوجود المترابط الأجزاء‏.‏‏.‏

وعند هذا الحد من تصوير تقلبات البشر وفق أهوائهم، وعدم انتفاعهم بآيات الله التي يرونها ماثلة في الكون من حولهم؛ وعدم إدراكهم لحكمة الله من وراء ما يشهدونه من وقائع وأحداث‏.‏‏.‏ عند هذا يتوجه بالخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعزيه عن إخفاق جهوده في هداية الكثير منهم؛ ويرد هذا إلى طبيعتهم التي لا حيلة له فيها، وانطماس بصيرتهم وعماها‏:‏

‏{‏فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين، وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم، إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون‏}‏‏.‏

وهو يصورهم موتى ولا حياة فيهم، صماً لا سمع لهم، عمياً لا يهتدون إلى طريق‏.‏‏.‏ والذي ينفصل حسه عن الوجود فلا يدرك نواميسه وسننه ميت لا حياة فيه‏.‏ إنما هي حياة حيوانية، بل أضل وأقل، فالحيوان مهدي بفطرته التي قلما تخونه‏!‏ والذي لا يستجيب لما يسمع من آيات الله ذات السلطان النافذ في القلوب أصم ولو كانت له أذنان تسمعان ذبذبة الأصوات‏!‏ والذي لا يبصر آيات الله المبثوثة في صفحات الوجود أعمى ولو كانت له عينان كالحيوان‏!‏

‏{‏إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون‏}‏‏.‏‏.‏

وهؤلاء هم الذين يسمعون الدعوة، لأن قلوبهم حية، وبصائرهم مفتوحة، وإدراكهم سليم‏.‏ فهم يسمعون فيسلمون‏.‏ ولا تزيد الدعوة على أن تنبه فطرتهم فتستجيب‏.‏

بعد ذلك يعود السياق ليجول بهم جولة جديدة، لا في مشاهد الكون من حولهم، ولكن في ذوات أنفسهم، وفي أطوار نشأتهم على هذه الأرض؛ ويمتد بالجولة إلى نهايتها هنالك في الحياة الأخرى‏.‏ في ترابط بين الحياتين وثيق‏:‏

‏{‏الله الذي خلقكم من ضعف، ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير‏.‏ ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة‏.‏ كذلك كانوا يؤفكون‏.‏ وقال الذين أوتوا العلم والإيمان‏:‏ لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث، فهذا يوم البعث، ولكنكم كنتم لا تعلمون‏.‏ فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون‏}‏‏.‏‏.‏

إنها جولة مديدة، يرون أوائلها في مشهود حياتهم؛ ويرون أواخرها مصورة تصويراً مؤثراً كأنها حاضرة أمامهم‏.‏ وهي جولة موحية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد‏.‏

‏{‏الله الذي خلقكم من ضعف‏}‏‏.‏‏.‏ ولم يقل خلقكم ضعافاً أو في حالة ضعف؛ إنما قال‏:‏ ‏{‏خلقكم من ضعف‏}‏ كأن الضعف مادتهم الأولى التي صيغ منا كيانهم‏.‏‏.‏ والضعف الذي تشير الآية إليه ذو معان ومظاهر شتى في تكوين هذا الإنسان‏.‏

إنه ضعف البنية الجسدية الممثل في تلك الخلية الصغيرة الدقيقة التي ينشأ منها الجنين‏.‏ ثم في الجنين وأطواره وهو فيها كلها واهن ضعيف‏.‏ ثم في الطفل والصبي حتى يصل إلى سن الفتوة وضلاعة التكوين‏.‏

ثم هو ضعف المادة التي ذرأ منها الإنسان‏.‏ الطين‏.‏ الذي لولا نفخة من روح الله لظل في صورته المادية أو في صورته الحيوانية، وهي بالقياس إلى الخلقة الإنسانية ضعيفة ضعيفة‏.‏

ثم هو ضعف الكيان النفسي أمام النوازع والدفعات، والميول والشهوات، التي لولا النفخة العلوية وما خلقت في تلك البنية من عزائم واستعدادات، لكان هذا الكائن أضعف من الحيوان المحكوم بالإلهام‏.‏

‏{‏الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة‏}‏‏.‏‏.‏ قوة بكل تلك المعاني التي جاءت في الحديث عن الضعف‏.‏ قوة في الكيان الجسدي، وفي البناء الإنساني، وفي التكوين النفسي والعقلي‏.‏

‏{‏ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة‏}‏‏.‏‏.‏ ضعفاً في الكيان الإنساني كله‏.‏ فالشيخوخة انحدار إلى الطفولة بكل ظواهرها‏.‏ وقد يصاحبها انحدار نفسي ناشئ من ضعف الإرادة ليهفو الشيخ أحيانا كما يهفو الطفل، ولا يجد من إرادته عاصماً‏.‏ ومع الشيخوخة الشيب، يذكر تجسيماً وتشخيصاً لهيئة الشيخوخة ومنظرها‏.‏

وإن هذه الأطوار التي لا يفلت منها أحد من أبناء الفناء، والتي لا تتخلف مرة فيمن يمد له في العمر، ولا تبطئ مرة فلا تجيء في موعدها المضروب‏.‏ إن هذه الأطوار التي تتعاور تلك الخليقة البشرية لتشهد بأنها في قبضة مدبرة، تخلق ما تشاء، وتقدر ما تشاء، وترسم لكل مخلوق أجله وأحواله وأطواره، وفق علم وثيق وتقدير دقيق‏:‏ ‏{‏يخلق ما يشاء وهو العليم القدير‏}‏‏.‏‏.‏

ولا بد لهذه النشأة المحكمة المقدرة من نهاية كذلك مرسومة مقدرة‏.‏ هذه النهاية يرسمها في مشهد من مشاهد القيامة، حافل بالحركة والحوار على طريقة القرآن‏:‏

‏{‏ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة‏}‏‏.‏‏.‏

فهكذا يتضاءل في حسهم كل ما وراءهم قبل هذا اليوم، فيقسمون‏:‏ ما لبثوا غير ساعة‏.‏ ويحتمل أن يكون قسمهم منصباً على مدة لبثهم في القبور، كما يحتمل أن يكون ذلك عن لبثهم في الأرض أحياء وأمواتاً‏.‏ ‏{‏كذلك كانوا يؤفكون‏}‏ ويصرفون عن الحق والتقدير الصحيح حتى يردهم أولو العلم الصحيح إلى التقدير الصحيح‏:‏

‏{‏وقال الذين أوتوا العلم والإيمان‏:‏ لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث‏.‏ فهذا يوم البعث‏.‏ ولكنكم كنتم لا تعلمون‏}‏‏.‏‏.‏

وأولو العلم هؤلاء هم في الغالب المؤمنون، الذين آمنوا بالساعة، وأدركوا ما وراء ظاهر الحياة الدنيا، فهم أهل العلم الصحيح وأهل الإيمان البصير‏.‏ وهم يردون الأمر هنا إلى تقدير الله وعلمه ‏{‏لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث‏}‏‏.‏‏.‏ فهذا هو الأجل المقدور، ولا يهم طويلاً كان أم كان قصيراً‏.‏ فقد كان ذلك هو الموعد، وقد تحقق‏:‏

‏{‏فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون‏}‏‏.‏‏.‏

ثم يختم المشهد بالنتيجة الكلية في إجمال يصور ما وراءه مما لحق بالظالمين الذين كانوا يكذبون بيوم الدين‏:‏

‏{‏فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون‏}‏‏.‏‏.‏

فلا معذرة منهم تقبل ولا يعتب عليهم أحد فيما فعلوه، أو يطلب إليهم الاعتذار‏.‏ فاليوم يوم العقاب لا يوم العتاب‏!‏

ومن هذا المشهد البائس اليائس يردهم إلى ما هم فيه من عناد وتكذيب، وتلك كانت عاقبة العناد والتكذيب‏:‏

‏{‏ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل؛ ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا‏:‏ إن أنتم إلا مبطلون‏.‏ كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون‏}‏ وهي نقلة بعيدة في الزمان والمكان ‏;‏ ولكنها تجيء في السياق وكأنها قريب من قريب وينطوي الزمان والمكان فإذا هم مرة أخرى أمام القرآن وفيه من كل مثل ‏;‏ وفيه من كل نمط من أنماط الخطاب ‏;‏ وفيه من كل وسيلة لإيقاظ القلوب والعقول ‏;‏ وفيه من شتى اللمسات الموحية العميقة التأثير وهو يخاطب كل قلب وكل عقل في كل بيئة وكل محيط وهو يخاطب النفس البشرية في كل حالة من حالاتها وفي كل طور من أطوارها ولكنهم بعد هذا كله يكذبون بكل آية ولا يكتفون بالتكذيب بل يتطاولون على أهل العلم الصحيح فيقولون عنهم إنهم مبطلون ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون ويعقب على هذا الكفر والتطاول كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون كذلك بمثل هذه الطريقة ولمثل هذا السبب فهؤلاء الذين لا يعلمون مطموسو القلوب لا تتفتح بصيرتهم لإدراك آيات الله متطاولون على أهل العلم والهدى ومن ثم يستحقون أن يطمس الله على بصيرتهم وأن يطبع على قلوبهم لما يعلمه سبحانه عن تلك البصائر وهذه القلوب الدرس التاسع توجيه إلى الصبر والإتزان ثم يأتي الإيقاع الأخير في السورة بعد تلك الجولات مع المشركين في الكون والتاريخ وفي ذوات أنفسهم وفي أطوار حياتهم ثم هم بعد ذلك كله يكفرون ويتطاولون يأتي الإيقاع الأخير في صورة توجيه لقلب الرسول ص ومن معه من المؤمنين فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون إنه الصبر وسيلة المؤمنين في الطريق الطويل الشائك الذي قد يبدو أحيانا بلا نهاية والثقة بوعد الله الحق والثبات بلا قلق ولا زعزعة ولا حيرة ولا شكوك الصبر والثقة والثبات على الرغم من اضطراب الآخرين ومن تكذيبهم للحق وشكهم في وعد الله ذلك أنهم محجوبون عن العلم محرومون من أسباب اليقين فأما المؤمنون الواصلون الممسكون بحبل الله فطريقهم هو طريق الصبر والثقة واليقين مهما يطل هذا الطريق ومهما تحتجب نهايته وراء الضباب والغيوم وهكذا تختم السورة التي بدأت بوعد الله في نصر الروم بعد بضع سنين ونصر المؤمنين تختم بالصبر حتى يأتي وعد الله ‏;‏ والصبر كذلك على محاولات الاستخفاف والزعزعة من الذين لا يوقنون فيتناسق البدء والختام وتنتهي السورة وفي القلب منا إيقاع التثبيت القوي بالوعد الصادق الذي لا يكذب واليقين الثابت الذي لا يخون